فصل: ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير التتر الكفار إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته:

لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان، لعنه الله، وسير عشرين ألف فارس، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء، حتى تدركوه وتأخذوه.
وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم منهم، لأنهم هم الذين أوغلوا في البلاد؛ فلما أمرهم جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعاً يسمى بنج آب، ومعناه خمسة مياه، فوصلوا إليه، فلم يجدوا هناك سفينة، فعلموا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء، وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة.
وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعباً وخوفاً، وقد اختلفوا فيما بينهم، إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر جيحون بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، ولا على المسير مجتمعين، بل تفرقوا أيدي سبا، وطلب كل طائفة منهم جهة، ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته، وقصدوا نيسابور، فلا دخلها اجتمع عليه بعض العسكر، فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها.
وكانوا لا يتعرضون في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه حتى يجمع لهم، فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران، وهي له أيضاً، فرحل التتر المغربون في أثره، ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه، فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها، فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان يعرف بباب سكون، وله هناك قلعة في البحر، فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر، فلما رأوا خوارزم شاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر، فلما أيسوا من لحاق خوارزم شاه رجعوا، فهم الذين قصدوا الري وما بعدها، على ما نذكره إن شاء الله.
هكذا ذكر لي بعض الفقها ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند، ثم نجا منهم ووصل إلينا، وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندان حتى وصل إلى الري، ثم منها إلى همذان، والتتر في أثره، ففارق همذان في نفر يسير، جريدة، ليستر نفسه ويكتم خبر، وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة.
وكان هذا هو الصحيح، فإن الفقيه كان حينئذ مأسوراً، وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان، ووصل خوارزم شاه، ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر، ففارق همذان، وكذلك أيضاً هؤلاء التجار فارقوها، ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار، فهم يخبرون عن مشاهدة؛ ولما وصل خوارزم شاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها.

.ذكر صفة خوارزم شاه وشيء من سيرته:

هو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش، وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه، وعظم محله، وأطاعه العالم بأسره، ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه، فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة، وملك بلادهم.
وكان فاضلاً، عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وغير متنعم، ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه ورعاياه؛ وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم.
حكى لي بعض خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد من خراسان، قال: وصلت إلى خوارزم، فنزلت ودخلت الحمام، ثم قصدت باب السلطان علاء الدين، فحين حضرت لقيني إنسان، فقال: ما حاجتك؟ فقلت له: أنا من خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني بالجلوس، وانصرف عني قليلاً، ثم عاد إلي وأخذني وأدخلني إلى دار السلطان، فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان، وقال لي: قد أعلمت السلطان خبرك فأمر بإحضارك عنده؛ فدخلت إليه وهو جالس في صدر إيوان كبير، فحين توسطت صحن الدار قام قائماً، ومشى إلى بين يدي، فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان، فأردت أن أقبل يده، فمنعني، واعتقني، وجلس وأجلسني إلى جانبه، وقال لي: أنت تخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: نعم؛ فأخذ يدي وأمرها على وجهه، وسألني عن حالنا وعيشنا، وصفة المدينة، ومقدارها، وأطال الحديث معين فلما خرجت من عنده قال: لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك، إنا نريد أن نعبر جيحون إلى الخطا، وهذا طريق مبارك حيث رأينا من يخدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة، ومضى، وكان منه ومن الخطا ما ذكرناهن وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم، رحمه الله، ولو أردنا ذكر مناقبه لطال ذلك.

.ذكر استيلاء التتر المغربة على مازندران:

لما أيس التتر المغربة من إدراك خوارزم شاه، عادوا فقصدوا بلاد مازندران، فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها، وامتنا قلاعها، فإنها لم تزل ممتنعة قديمة الزمان وحديثة، حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها، من العراق إلى أقاصي خراسان، بقيت أعمال مازندران يؤخذ منهم الخراج، ولا يقدرون على دخول البلاد، إلى أن ملكت أيام سليمان بن عبد الملك سنة تسعين، وهؤلاء الملاعين ملكوها صفواً عفواً لأمر يريده الله تعالى.
ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا، وسبوا، ونهبوا، وأحرقوا البلاد، ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري، فرأوا في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه، وأموالهم، وذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة، وكان سبب ذلك أن والدة خوارزم شاه لما سمعت بما جرى على ولدها خافت، ففارقت خوارزم وقصدت نحو الري لتصل إلى أصفهان وهمذان وبلد الجبل تمتنع فيها، فصادفوها في الطريق، فأخذوها وما معها قبل وصولهم إلى الري، فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع، ونفيس من الجواهر، وغير ذلك، وسيروا الجميع إلى جنكزخان بسمرقند.

.ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان:

في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر، لعنهم الله، إلى الري في طلب خوارزم شاه محمد، لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو الري، فجدوا السير في أثره، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار، وكذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها، فلم يشعروا بهم إلا وقد وصلوا إليها، وملكوها، ونهبوها، وسبوا الحريم، واستقرقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها، ولم يقيموا، ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها، وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري، وأحرقوا، وخربوا ووضعوا السيف في الرجال والنساء والأطفال، فلم يبقوا على شيء.
وتموا على حالهم إلى همذان، وكان خوارزم شاه قد وصل إليها في نفر من أصحابه، ففارقها وكان آخر العهد به، فلا يدرى ما كان منه فيما حكاه بعضهم عنه، وقيل غير ذلك، وقد ذكرناه.
فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال والثياب والدواب وغير ذلك، يطلب الأمان لأهل البلد، فأمنوهم، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك؛ وساروا ووصلوا إلى قزوين، فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم، فقاتلوهم، وجدوا في قتالهم، ودخلوها عنوة بالسيف، فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه، حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ثم فارقوا قزوين، فعد القتلى من أهل قزوين، فزادوا على أربعين ألف قتيل.

.ذكر وصول التتر إلى أذربيجان:

لما هجم الشتاء على التتر في همذان، وبلد الجبل، رأوا برداً شديداً، وثلجاً متراكماً، فساروا إلى أذربيجان، ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم، وخربوا وأحرقوا، ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان، فلم يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يفيق، وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال، وثياب، ودواب، وحمل الجميع إليهم، فساروا من عنده يريدون ساحل البحر، لأنه يكون قليل البرد، ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم، فوصلوا إلى موقان، تطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج، فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر، نحو عشرة آلاف مقاتل، فقاتلوهم، فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم.
وأرسل الكرج إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر، فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء؛ وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب خلاط وديار الجزيرة، يطلبون منه الموافقة عليهم، وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع، فلم يفعلوا كذلك، بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك، اسمه أقوش، وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم، فاجتمع معه خلق كثير؛ وراسل التتر في الانضمام إليهم، فأجابوه إلى ذلك، ومالوا إليه للجنسية، فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج، فملكوا حصناً من حصونهم وخربوه، ونهبوا البلاد وخربوها، وقتلوا أهلها، ونهبوا أموالهم، حتى وصلوا إلى قرب تفليس.
فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم، فلقيهم أقوش ألاً فيمن اجتمع إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه كلهم، فقتل من أسحاب أقوش خلق كثير، وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال، وقتل منهم أيضاً كثير، فلم يثبتوا للتتر، وانهزموا أقبح هزيمة، وركبهم السيف من كل جانب، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم.
ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر اله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي، صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن.
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها، وناهيك به سعة بلاد، وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك، ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم.
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم، بين الغرب والشمال، ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط، وأقاموا فيها، ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها، ولا إخراجهم منها، وباقي ديار مصر على خطر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره، فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته، وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره، وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر، فتوفي في جزيرة هناك، وبالجملة فقد عدم، ثم صح موته ببحر طبرستان، وهذا عظيم، إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائباً لا مانع له، ولا سلطان يدفع عنه، والعدو يجوس البلاد، يأخذ ما أراد ويترك ما أراد، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه، وأحرقوه، ونهبوه، وما لا يصلح لهم أحرقوه، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً ويلقون فيه النار، وكذلك غيره من الأمتعة.

.ذكر ملك التتر مراغة:

في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان.
وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج، وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج، فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية، ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع، فعدلوا عنهم، وهذه كانت عادتهم، إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً عدلوا عنها، فوصلوا إلى تبريز، وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة، فحصروها وليس بها صاحب يمنعها، لأن صاحبها كانت امرأة، وهي مقيمة بقلعة رويندز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».
فلما حصروها قاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق، وزحفوا إليها، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قتلوهم، فكانوا يقاتلون كرهاً، وهم المساكين، كما قيل: كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر، وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوة منه.
فأقاموا عليها عدة أيام، ثم ملكوا عنوة وقهراً رابع صفر، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما يصلح لهم، وما لا يصلح لهم أحرقوه، واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم: نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا؛ فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل.
وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً؛ وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل، فخفنا، حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفاً من السيف، وجاءت كتب مظفر الدين، صاحب إربل، إلى بدر الدين، صاحب الموصل، يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جمعاً صالحاً من عسكره، وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر، ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد، فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس، ويمنعهم من الجواز إليه.
ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا لمنعوا التتر، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل، لصعوبتها، إلى هذه الناحية، ويطرقون العراق، فسار مظفر الدين من إربل في صفر، وسار إليهم جمع من عسكر الموصل، وتبعهم من المتطوعة كثير.
وأرسل الخليفة أيضاً إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم، فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج، فاعتذر إلى الخليفة بأخيه، وقوة الفرنج، وإن لم يتداركها، وإلا خرجت هي وغيرها، وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر. وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط.
فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر، وهو أكبر أمير بالعراق، ومعه غيره من الأمراء، في نحو ثماني مائة فارس، فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة، وكان المقدم على الجميع مظفر الدين، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر.
وحكى مظفر الدين قال: لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له: إن العدو قوي، وليس لي من العسكر ما ألقاه به، فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد؛ فأمرين بالمسير، ووعدني بوصول العسكر، فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي، فأقمت، وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين.
ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظناً منهم أن العسكر يتبعهم، فلما لم يروا أحداً يطلبهم أقاموا، وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا، فلما لم يروا العدو يقصدهم، ولا المدد يأتيهم، تفرقوا، وعادوا إلى بلادهم.

.ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها:

لما تفرق العسكر الإسلامي عاد التتر إلى همذان، فنزلوا بالقرب منها، وكان لهم بها شحنة يحكم فيها، فأرسلوا إليه ليطلب من أهلها مالاً وثياباً، وكانوا قد استنقذوا أموالهم في طول المدة. وكان رئيس همذان شريفاً علوياً، وهو من بيت رئاسة قديمة لهذه المدينة، هو الذي يسعى في أمورهم أهل البلد مع التتر، ويوصل إليهم ما يجمعه من الأموال؛ فلما طلبوا الآن منهم المال لم يجد أهل همذان ما يحملونه إليهم، فحضروا عند الرئيس ومعه إنسان فقيه قد قام في اجتماع الكلمة على الكفار قياماً مرضياً، فقالوا لهما: هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا، ولم يبق لنا ما نعطيهم، وقد هلكنا من أخذهم أموالنا، وما يفعله النائب عنهم بنا من الهوان.
وكانوا قد جعلوا بهمذان شحنة لهم يحكم في أهلها بما يختاره، فقال الشريف: إذا كنا نعجز عنهم فكيف الحيلة؟ فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال؛ فقالوا له: أنت أشد علينا من الكفار! وأغلظوا له في القول، فقال: أنا واحد منكم، فاصنعوا ما شئتم. فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتر من البلد والامتناع فيه، ومقاتلة التتر؛ فوثب العامة على الشحنة فقتلوه وامتنعوا في البلد؛ فتقدم التتر إليهم وحصروهم، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها، لخرابها، وقتل أهلها، وجلاء من سلم منهم، فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً؛ وأما التتر فلا يبالون بعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم، ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها.
فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها والرئيس والفقيه في أوائلهم، فقتل من التتر خلق كثير، وجرح الفقيه عدة جراحات، وافترقوا، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول، وجرح الفقيه أيضاً عدة جراحات وهو صابر؛ وأرادوا أيضاً الخروج، اليوم الثالث، فلم يطق الفقيه الركوب، وطلب الناس الرئيس العلوي فلم يجدوه، كان قد هرب في سرب صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله إلى قلعة هناك على جبل عال فامتنع فيها.
فلما فقده الناس بقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، إلا أنهم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا، فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه.
وكان التتر قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم؛ فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله، فقصدوهم وقاتلوهم في رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة بالسيف، وقاتلهم الناس في الدروب، فبطل السلاح للزحمة، واقتتلوا بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً، ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام، ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه ورحلوا عنه إلى مدينة أردويل.
وقيل كان السبب في ملكها أن أهل البلد لما شكوا إلى الرئيس الشريف ما يفعل بهم الكفار، أشار عليهم بمكاتبة الخليفة لينفذ إليهم عسكراً مع أمير يجمع كلمتم، فاتفقوا على ذلك، فكتب إلى الخليفة ينهي إليه ما هم عليه من الخوف والذل، وما يركبهم به العدو من الصغار والخزي، ويطلب نجدة ولو ألف فارس مع أمير يقاتلون معه ويجتمعون عليه؛ فلما سار القصاد بالكتب أرسل بعض من علم بالحال إلى التتر يعلمهم ذلك، فأرسلوا إلى الطريق فأخذوهم، وأخذوا الكتب منهم، وأرسلوا إلى الرئيس ينكرون عليه الحال، فجحد، فأرسلوا إليه كتبه وكتب الجماعة، فسقط في أيديهم، وتقدم إليهم التتر حينئذ وقاتلوهم، وجرى في القتال كما ذكرنا.

.ذكر مسير التتر إلى أذربيجان وملكهم أردويل وغيرها:

لما فرغ التتر من همذان ساروا إلى أذربيجان، فوصلوا إلى أردويل فملكوها وقتلوا فيها وأكثروا، وخربوا أكثرها، وساروا منها إلى تبريز، وكان قد قام بأمرها شمس الدين الطغرائي، وجمع كلمة أهلها، وقد فارقها صاحبها أوزبك بن البهلوان، وكان أميراً متخلفاً، لا يزال منهمكاً في الخمر ليلاً ونهاراً، يبقى الشهر والشهرين لا يظهر، وإذا سمع هيعة طار مجفلاً له، وله جميع أذربيجان وأران، وهو أعجز خلق الله عن حفظ البلاد من عدو يريدها ويقصدها.
فلما سمع بمسير التتر من همذان فارق هو تبريز وقصد نقجوان، وسير أهله ونساءه إلى خوي ليبعد عنهم، فقام هذا الطغرائي بأمر البلد، وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع، وخذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وحصن البلد بجهده وطاقته؛ فلما قاربه التتر، وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم، وأنهم قد حصنوا المدينة، وأصلحوا أسواها وخندقها، أرسلوا يطلبون منهم مالاً وثياباً، فاستقر الأمر بينهم عل قدر معلوم من ذلك، فسيروه إليهم، فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها، وقتلوا كل من فيها.
ورحلوا منها إلى بيلقان، من بلاد أران، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى، وخربوا، وقتلوا من ظفروا به من أهلها، فلما وصولا إلى بيلقان حصروها، فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح، فأرسلوا إليهم رسولاً من أكابرهم ومقدميهم، فقتله أهل البلد، فزحف التتر إليهم وقاتلوهم، ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ووضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير، ولا امرأة، حتى إنهم كانوا يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة، فيقتلهم واحداً بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً.
فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها بالنهب والتخريب، وساروا إلى مدينة كنجة، وهي أم بلاد أران، فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة ذريتهم بقتال الكرج، وحصانتها، فلم يقدموا عليها، فساروا إلى أهلها يطلبون منهم المال والثياب، فحملوا إليهم ما طلبوا، فساروا عنهم.

.ذكر قصد التتر بلاد الكرج:

لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران، بعضه بالملك، وبعضه بالصلح، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً، وكان الكرج قد أعدوا لهم، واستعدوا، وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها، فوصل إليهم التتر، فالتقوا، فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين، فأخذهم السيف، فلم يسلم منهم إلا الشريد.
ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم، وخربوها، وفعلوا بها ما هو عادتهم، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمعوا جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم، فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس، فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب، والقتل، والتخريب، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق والدربندات، فلم يتجاسروا على الوغول فيها، فعادوا عنها.
وداخل الكرج منهم خوف عظيم، حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج، قدم رسولاً، أنه قال: من حدثكم أن التتر انهزموا وأسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا، فإن القوم لا يفرون أبداً، ولقد أخذنا أسيراً منهم، فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات، ولم يسلم نفسه للأسر.

.ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه:

لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان، فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها، فصبروا على الحصر، ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم، وقيل بل جمعوا كثيراً من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك، ومن قتلى الناس منهم ومن غيرهم، وألقوا بعضه فوق بعض، فصار مثل التل، وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها، فصبروا، واشتد القتال ثلاثة أيام، فأشرفوا على أن يؤخذوا، فقالوا: السيف لا بد منه، فالصبر أولى بنا نموت كراماً.
فصبوا تلك الليلة، فأنتنت تلك الجيف وانهضمت، فلم يبق للتتر على السور استعلاء، ولا تسلط على الحرب، فعاودوا الزحف وملازمة القتال، فضجر أهلها، ومسهم التعب والكلال والإعياء، فضعفوا، فملك التتر البلد، وقتلوا فيه فأكثروا، ونهبوا الأموال فاحتازوها.
فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند، فلم يقدروا على ذلك، فأرسلوا رسولاً إلى شروان شاه ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولاً يسعى بينهم في الصلح، فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه، فأخذوا أحدهم فقتلوه، ثم قالوا للباقين: إن أنتم عرفتمونا طريقاً نعبر فيه فلكم الأمان، وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا. فقالوا لهم: إن هذا الدربند ليس فيه طريق البتة، ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق؛ فساروا معهم إلى ذلك الطريق، فعبروا فيه، وخلفوه وراء ظهورهم.
ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال، وفيها أمم كثيرة منهم: اللان واللكز، وطوائف من الترك، فنهبوا، وقتلوا من اللكز كثيراً، وهم مسلمون وكفار، وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد، ووصلوا إلى اللان، وهم أمم كثيرة، وقد بلغهم خبرهم، فحذروا، وجمعوا عندهم جمعاً من قفجاق، فقاتلوهم، فلم تظفر أحدى الطائفتين بالأخرى، فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون: نحن وأنتم جنس واحد، وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم، ولا دينكم مثل دينهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض لكم، ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم.
فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك، فحملوا إليهم ما استقر وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان، فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا، وسبوا، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح، فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم، وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر، ففروا من غير قتال، وأبعدوا، فبعضهم اعتصم بالغياض، وبعضهم بالجبال، وبعضهم لحق ببلاد الروس.
وأقام التتر في بلاد قفجاق، وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف، وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى، وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى، وهي غياض على ساحل البحر، ووصلوا إلى مدينة سوادق، وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم، فإنهم على بحر الخزر، والمراكب تصل إليها وفيها الثياب، فيشتري قفجاق منهم ويبيعون عليهم الجواري، والمماليك، والبرطاسي، والقندر، والسنجاب، وغير ذلك مما هو في بلادهم، وبحر الخزر هذا هو بحر متصل بخليج القسطنطينية.
ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها، وتفرق أهلها منها، فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله، وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان.
ذكر ما فعله التتر بقفجاق والروس لما استولى التتر على أرض قفجاق، وتفرق قفجاق، كما ذكرنا، سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس، وهي بلاد كثيرة، طويلة عريضة، تجاورهم، وأهلها يدينون بالنصرانية، فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم، واتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم، وأقام التتر بأرض قفجاق مدة، ثم إنهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس، فسمع الروس وقفجاق خبرهم، وكانوا مستعدين لقتالهم، فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها، فبلغ مسيرهم إلى التتر، فعادوا على أعقابهم راجعين، فطمع الروس وقفجاق فيهم، وظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن قتالهم، فجدوا في اتباعهم، ولم يزل التتر راجعين، وأولئك يقفون أثرهم، اثني عشر يوماً.
ثم إن التتر عطفوا على الروس وقفجاق، فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم، لأنهم كانوا قد أمنوا التتر، واستشعروا القدرة عليهم، فلم تتكامل عدتم للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله.
ودام القتال بينهم عدة أيام، ثم إن التتر ظفروا واستظهروا، فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر، وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل، ونهب جميع ما معهم، ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة، وتبعهم التتر يقتلون وينهبون ويخربون البلاد، حتى خلا أكثرها، فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم، وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام في عدة مراكب.
فلما قاربوا المرسى الذي يريدونه انكسر مركب من مراكبهم، فغرق إلا أن الناس نجوا، وكانت العادة جارية أن السلطان له كل مركب ينكسر، فأخذ من ذلك شيئاً كثيراً، وسلم باقي المراكب، وأخبر من بها بهذه الحال.